لا أريد طبًا يقصيني..عن العنف الطبي ضد النساء.

BarAman-WS-SRHR

لم أكن أظن يومًا أنني سأشكك في المنظومة الطبية؛ لطالما آمنت بأن الطبيب يحمل ترياق الشفاء، وأن الفحوصات والتحاليل أدلة قاطعة لا مجال للجدال معها.
كان هذا قبل أن أمر بما يُعرف بـ”العنف الطبي”؛ وهو كل فعل أو امتناع يصدر عن أحد العاملين في القطاع الصحي يؤدي إلى التقليل من شأن المريض، تجاهل ألمه، أو نزع إنسانيته، سواء عن قصد أو بدون وعي.

لم أدرك ذلك وقتها، لكن نظرات الاستهزاء، وقرارات العلاج المتهورة، والتشخيصات السطحية التي تلقيتها، لم تكن مجرد سوء حظ طبي… بل كانت عنفًا طبيًا مقنّعًا في هيئة روتين مهني.
تجربتي هذه لم تكن فقط قاسية، بل كانت مختلفة.

بدأت الحكاية بألمٍ مستمر في أسفل الظهر، بدأ خفيفًا ثم أصبح يرافقني كظل. تجاهلته في البداية، ثم لجأت إلى عيادة قريبة. أُجريت لي عدة فحوصات، وشُخِّصت حالتي على أنها “خشونة فقرات” و”شد عضلي”. تم صرف عدة أدوية، وطُلب مني فقدان الوزن والراحة. شعرت بالارتباك، هل هذه فعلًا هي الأسباب كلها؟

ما كان يُؤذيني أحيانًا أكثر من الألم ذاته هو تلك النظرة؛ نظرة تبدأ من رأسي وتمر على جسدي كله حتى تصل إلى قدمي، ثم صمتٌ للحظة قبل أن يُقال لي ببرود: “حاولي تخسي”.
وكأن وزني هو التفسير الوحيد المريح لهم، الذي يُغنيهم عن السؤال، أو الفهم، أو التعمق في التشخيص.
كانت التوصية بإنقاص الوزن الخطوة الثانية دومًا، بعد النظرة.

لكن الألم استمر، بل وازداد. مضت شهور، وأنا أتنقل بين الأطباء بحثًا عن إجابة تُقنعني وتطمئنني. الطبيب التالي لم يصف أي أدوية، بل أوصى بالعلاج الطبيعي مباشرة. التزمت بالخطة، رغم شكوكي، لكن المفاجأة أن الألم ازداد سوءًا بعد الجلسات.

ما زاد الطين بلة هو التجربة المؤلمة داخل عيادة العلاج الطبيعي.
كلما حاولت شرح أعراضي، كنت أُقابل بابتسامات ساخرة أو تلميحات بأني “أبالغ”، وكأن آلامي أقل أهمية من آلام الآخرين.
كنت أرى نظرات الاستغراب من كبار السن الجالسين بجانبي في غرفة الانتظار، وكأن وجودي هناك، كفتاة صغيرة السن، يُعد غريبًا أو حتى مزعجًا.
أحيانًا كانوا يحاولون أخذ دوري، وكنت أتنازل في محاولة لفهمهم. لكن هذا التعاطف من جانبي لم يُخفف من شعور العزلة والإقصاء الذي بدأ يتضخم داخلي.

لم أعد فقط متألمة جسديًا، بل أصبحت أحمل حزنًا ثقيلًا لم أعرفه من قبل؛ إحساسًا بأنني خارج المنظومة، بأنني لا أُرى ولا يُصغى لي.

وأخيرًا، وبعد سنة ونصف من بداية الأعراض، حصلت على تشخيصي الحقيقي:
التهاب المفصل العجزي الحرقفي الثنائي (Bilateral Sacroiliitis)،
وهو التهاب مزمن يصيب المفصل الذي يربط أسفل العمود الفقري بالحوض، وغالبًا ما يُخطئ الأطباء في تشخيصه، خصوصًا لدى النساء.

بل إن أحد الأطباء أخبرني أن هذه الحالة قد تكون ناتجة عن تشوّه خلقي بسيط في العمود الفقري، موجود منذ الولادة لكنه لا يُكتشف إلا حين يُثار بفعل تغيّر جسدي، أو ضغط، أو مجهود زائد.
وهذه المعلومة وحدها فتحت عيني على حقيقة أعمق: أن كثيرًا من الأمراض المزمنة لدى النساء تُهمّش أو يتم تجاهلها حتى يتفاقم الألم، وكأن أجسادنا يجب أن تصرخ طويلًا قبل أن يؤمن بها أحد.

ورغم أنني شعرت أخيرًا بأن ألمي قد تم تسميته والاعتراف به، لم أستطع تجاهل المرارة:
لماذا استغرق الأمر كل هذا الوقت؟
لماذا تجاهل الأطباء إشارات واضحة؟
لماذا عوملت كأنني أختلق ألمي أو أُبالغ في وصفه؟

بدأت أطرح أسئلة أكبر: لماذا يصعب على النساء الحصول على تشخيص دقيق؟
لماذا نُدفع دومًا نحو الشك في أنفسنا؟
لجأت لطبيبات أعرفهن، فوجدت إجابات صادمة.
قالت لي إحداهن إن الأدوية تُختبر غالبًا على الذكور لتجنب تأثير “تقلباتنا الهرمونية” على النتائج.
وفضّلت أخرى الصمت، وكأنها تعترف ضمنيًا أن لا شيء سيتغير.

لكن أليس هذا بحد ذاته إشكالًا؟

ما كشفه لي هذا التشخيص لم يكن طبيًا فقط، بل اجتماعيًا.
الأمر لم يكن مجرد صدفة، بل سياسة ممنهجة.

فبحسب دراسة نُشرت في Nature Communications عام 2020، فإن 80% من الدراسات على الألم أُجريت على ذكور، سواء من البشر أو الحيوانات.
وتحديدًا، اعتمدت معظم التجارب على ذكور القوارض، باعتبارها نموذجًا “أكثر استقرارًا” بيولوجيًا.

وتؤكد ScienceDaily هذا الاتجاه، مشيرةً إلى أن الأبحاث الطبية لا تزال تركز على الذكور في تجاربها، رغم الفروقات المثبتة علميًا بين الجنسين في معالجة الألم.
هذا التحيّز البحثي لا يُقصي النساء فقط، بل يكرّس علاجات قد تكون غير فعّالة أو حتى ضارة عند تطبيقها على أجساد لم تُؤخذ في الاعتبار أصلًا.

وفي المنطقة العربية، لا تزال هناك فجوة واضحة في جمع البيانات حول صحة النساء، ما يعني أن كثيرًا من العلاجات لم تُصمم أصلًا لأجسادنا.

“نقص البيانات ليس مجرد تقصير… بل ظلم.”

حين تُقصى النساء من التجارب السريرية، ولا تُصمم البروتوكولات العلاجية بناءً على أجسادهن، تصبح الثقة في النظام الطبي ضربًا من التفاؤل الأعمى.
كيف نثق في علاج لم يُختبر علينا؟
وكيف نلوم أجسادنا إن لم تستجب له؟

ما نريده ليس معجزة، بل الحد الأدنى:
أن يُؤخذ ألمنا على محمل الجد،
أن يُدرَس جسد المرأة بصفته كيانًا مستقلًا، لا شذوذًا إحصائيًا.
أن يتوقف الأطباء عن ردّ كل عرض إلى الوزن أو الهرمونات أو “الدلع”.
نحن لسنا هامشًا في التجربة الطبية، بل نصف المعادلة.

كتابة: فاطمة كناني.