امرأة نسوية في مواجهة ذاتها: حين يصبح الوعي عبئًا

امرأة-نسوية

بقلم اشراق بوسعيدي

في أوقاتٍ كثيرة، أسأل نفسي: “هل أنا فعلاً نسوية صالحة وصادقة في ممارستي؟ أم أنني أفشل في تطبيق الأفكار التي أؤمن بها؟” تملؤني في تلك اللحظة موجة من الشك والقلق ,تتخللها ومضات من الغضب والحزن, إحساس دائم بالذنب يرافقه موجات من التردد تلامس أعماق قلبي، متأرجحًا على حافة شعورٍ لا أستطيع احتواؤه, ليعتريني حينها  ارتباك غامض وخجلٌ خافت من هشاشتي، من أنني لست بالصلابة التي ظننت نفسي عليها، وأن في داخلي جزءًا لا يزال يخاف ويتردد ويغضب ويشعر بالألم. 

أنا التي أرفع شعارات العدالة والمساواة، أتحدث عن التحرر من القوالب، وأجادل ضد التمييز، لكن في تفاصيل الحياة اليومية أتعثر. أرى موقفًا غير منصف فأصمت خوفًا أو تحسبًا لما قد يترتب عليه، أجامِل بدافع الحذر، أساير من أجل سلامٍ مؤقت، أضحك على ما لا يُضحكني أو حتى يزعجني، لأنني لا أريد أن أبدو “معقّدة أكثر من اللازم”، أتماهى مع المألوف كي لا أدفع ثمن الرفض، أتنازل بدافع التعب أو الخوف، أتغاضى حتى لا أنجرح، أكبت ما في داخلي حتى لا أُؤذي من أمامي، أستشيط غضبًا أحيانًا دون داعٍ أو بداعٍ، أختبئ داخل مشاعري وأفكاري، أو أكشف عن رهافتي أكثر مما يحتمل الموقف. 

وفي كل مرة يحدث ذلك، يتسلّل إلى داخلي صوت يعرف جيدًا كيف يجلدني. يذكّرني بكل ما أؤمن به، ويقارن بين المبادئ الصافية التي أنادي بها والواقع الملتبس الذي أعيشه. يسألني بحدة: لماذا تبنيتِ هذا الرأي وأنتِ لا ترين أثره في حياتك؟ لماذا تناقضين ما تقولينه؟ لماذا أنافق؟ لماذا لا أتصرف كما “يجب” أن تتصرف النسوية الصالحة كما في القوالب؟ كأنني ممثلة تؤدي الدور الصحيح أمام الآخرين، ثم تخلعه بصمت حين ينتهي المشهد.  حمل ثقيل جدًا يسلب مني توازنًا داخليًا، معادلة صعبة، أعيشها كل يوم وما زلت أفشل في حلها، لتتحول هذه المساحة من الوعي والحرية التي منحتني إياها النسوية الى أداة محاسبة صارمة أجلد بها ذاتي مرارًا وتكرارًا، فأقوْلب نفسي في دوامة معايير دائمة لا تقبل سوى الكمال معيارًا. وهكذا أدور في حلقة لا تنتهي من اللوم والحوكمة الذاتية، في دائرة مغلقة من الذنب، تغذّيها فكرة أنني يجب أن أكون النسوية المثالية التي لا تخطئ، ولا تتعب، ولا تتناقض.

ومع ذلك، أحاول جاهدة في مثل هذه اللحظات أن أتمالك نفسي، وأن أكون رفيقة بها. أذكّرها بأنني إنسانة تتعلم، وأن الخطأ جزء من التحوّل لا نقيضه فأتمالك نفسي… أذكّر نفسي بأن هذا الصوت ليس نابعًا مني وحدي، بل هو صدى للأنظمة التي أحاول مقاومتها. أنظمة علمتني أن هناك دومًا معيارًا يجب أن ألتزم به، حتى وأنا أحاول كسره. وحين يتسلل هذا المنطق إلى داخل التيار النسوي نفسه، يتحول الوعي إلى اختبار دائم، كأن النسوية تفرض شكلًا محددًا من الصواب، فأبدأ في مراقبة نفسي والأخريات، وأعيد إنتاج السلطة التي أقول إنني أتمرّد عليها، لكن بلغة أكثر “تقدمية”. فيغدو السؤال: هل أنا نسوية حقيقية بما يكفي؟ هل أتصرف كما يجب؟ هل موقفي نقيّ بما فيه الكفاية لأُحسب على “التيار الصحيح”؟ وهكذا أُحاصر بين الخارج الذي يطالبني بالطاعة والداخل الذي يطالبني بالكمال. فبالرغم من أنني أحيانًا أشعر بأنني لا أمارس الوعي النسوي بقدر ما أؤدي طقوسه، وكأنني أكرر شعاراته لأثبت لنفسي أنني ما زلت في الصف، خوفًا من تلك النظرات التي لطالما انتقدت توجهي، ووصفتني بالتطرف أو بالسذاجة، وخشية أن يُقال إنني تراجعت أو خنت الفكرة؛ فإن ما أريده حقًا ليس الانتماء إلى نموذج محدد، ولا الالتزام بصورة جاهزة تُرضي الآخرين. ما أريده هو مساحة أوسع لأكون نفسي، بصدق.

فالنسوية التي أؤمن بها لا تحشرني في خانة، ولا تطلب منّي أن أكون نسخة مثالية. بل تمنحني الحق في أن أكون متناقضة، مترددة، مشككة، مخطئة، متعلمة، دائمة التجدد، حاملة للأمل، محبة للتغيير، وساعية لإحداث تأثير. تدفعني لأن أكون أنا نفسي، لا نسخة كاملة مني، لأن لا أنكر تناقضي باسم المبدأ، أو أخفي أفكاري خوفًا من سلوك طريق مغاير، لأنني حينها سأتحول إلى نسخة جديدة من النظام نفسه الذي أرفضه؛ نسخة لا تزال تحاكم وتجلد الإنسانة في داخلي. حينها أعيد ترتيب أفكاري لأذكر نفسي أنني كبرت في مجتمع جعل من إرضاء الآخرين سلوكًا بديهيًا، ومن الطاعة فضيلة، ومن الحذر ضرورة للبقاء. تربّيت على أن أقول «نعم» أكثر مما أريد، وأن أبتسم حتى حين أختنق. وحين بدأت أتعلم أن أقول «لا»، حملت معي إرث الخوف القديم. لذلك، حين أختار الصمت أحيانًا، لا يكون ضعفًا، بل أثرًا من تربية طويلة على النجاة. النسوية لم تخلقني من جديد، بل جاءت إلى امرأة مثقلة بتاريخ طويل، امرأة تحاول التفاوض مع ذاكرة ممتدة في أعماق جسدها قبل عقلها. لا يمكن أن يُطلب من امرأة أن تتحدث بصوت ثابت بينما هي ما تزال تتعلم أولًا كيف تنصت إليه، وكيف تميّزه من بين كل الأصوات التي حاولت عبر السنين أن تُسكتها.

الشعور بالذنب ليس دائمًا دليل ضعف، بل غالبًا دليل حياة وتطور. إنني حين أشعر بالتناقض، فهذا يعني أنني أرى، أراقب، وأحاول أن أكون أوفى لنفسي. فالوعي لا يُطفئ التناقض بل يكشفه، والنسوية لا تمنح الطمأنينة بقدر ما تمنح شجاعة النظر إلى الداخل والغوص فيه. ومع ذلك، حين يتحول الذنب إلى سوط، حين أجلد نفسي لأنني لم أكن «كافية»، أعيد إنتاج العنف الذي أحاربه، لكن في شكل داخلي أكثر قسوة رغم أن التعاطف مع الذات فعل نسوي في حد ذاته، لأنني في كل مرة أختار أن أكون رحيمة بنفسي، أكسر قاعدة قديمة تقول إن النساء يجب أن يتحمّلن أكثر، ويغفرن لأنفسهنّ أقل.

والحقيقة أن هذا السؤال “لماذا أشعر أنني نسوية سيئة” يتضمن دليلًا على أنني في رحلة مستمرة أحاول فيها أن أحيا بوعي نسوي. أضل الطريق أحيانًا، ترهقني المسافات، ويغلبني إحساس الشك وإعادة النظر، فأفكك مفاهيم ظننت سابقًا أنها أسس لا تهتز ولا تتغير. أكتشف أن الطريق ليس جماعيًا بالضرورة، وأنه لا يشبه التوقعات التي وُضعت لنا أو التي انتظرتها. إن النسوية لا تُختزل في شعارات أو معايير جاهزة، ولا توجد نسوية واحدة صالحة لكل النساء. هناك نساء يدرسن، يعملن، يرسمن، يكتبن، يرقصن.. نساء في البيوت، في الحقول، في المكاتب، في الشوارع، في الجامعات، في المحاكم.. كلّ واحدة تقاوم بطريقتها، وبالقدر الذي تسمح به حياتها. ففي عالم لا يمنح النساء حتى رفاهية التعب، قد يكون أبسط أشكال المقاومة أن أعترف أنني متعبة، وأن هذا لا ينتقص من قيمتي، بل يخلق مساحة لتفكيك فكرة القوة وإعادة تعريفها لتشمل الضعف والهشاشة.

لذلك، حين أقول إنني أشعر بأنني «نسوية سيئة»، فربما ما أعنيه في العمق هو أنني أحاول أن أكون صادقة مع نفسي أكثر مما يتيح لي العالم. وفي هذه المحاولة، يوجد جوهر النسوية، وهو البحث الدائم عن الذات الحرة وسط نظام يريد أن يعرّفني من الخارج. أخيرا أؤمن أنه ليست هناك نسويات سيئات، بل نسويات في طور التشكّل؛ يخطئن ويتعلمن ويواصلن. النسوية لا تطلب مني الكمال، بل تطلب أن أرى، وأحسّ، وأفكّر، وأسمح لنفسي أن أكون بشرًا. أن أحب نفسي وأنا أتمرّد، أن أعترف بخوفي وأنا أتحرّك، أن أقول «أنا أحاول» بدلًا من «أنا فشلت». في النهاية، النسوية ليست هوية أعلّقها، بل علاقة مستمرة مع الذات والعالم؛ علاقة تقوم على التعاطف لا على المثال.  حينها أتوقف عن محاسبة نفسي، وأبدأ بالإنصات لما في داخلي من غضب وإصرار في آن واحد…

أنا لست نسوية سيئة، بل أنا نسوية بشرية، بكل ما في ذلك من ضعف وتحدٍّ، من أمل وألم، من كرامة وحياة..