تحكي ليز اسكويغا إحدى السكان الأصليين في كندا عن كيف دمر الأطباء حلمها بتكوين عائلة كبيرة بعد تعقيمها قسريا دون اذنها اثناء إنجاب ابنتها1.
“لسن أمهات صالحات.”
بسبب هذا الاعتقاد الذي اعتقد به المستعمر عن السكان الأصليين في كندا وبحسب تقديرات الحكومة الكندية ليز ليست الوحيدة، بل تم تعقيم اثني عشر ألف امرأة من السكان الأصليين دون إذنهن في كندا منذ السبعينيات وعلى الرغم من تجريم هذه الممارسة الا انها ما زالت مستمرة مما يرجح أن يكون العدد أكبر من ذلك2.
على بعد عشرات الالاف من الكيلومترات تحكي بونجيكيل مسيبي احدى السكان الأصليين في جنوب افريقيا مأساتها مع التعقيم القسري الذي تعرضت له اثناء انجابها ابنتها عام 2005 لتكتشف بعد أكثر من عشر سنوات انها لن تستطيع الانجاب ثانية. تم اجراء عملية التعقيم القسري ل 48 امرأة من السكان الأصليين في جنوب افريقيا بين عامي 2002 – 2015 ووفقا للجنة المساواة بين الجنسين في جنوب افريقيا تم تهديد العديد من النساء بعدم إعطائهن العلاج إذا لم يوقعن المستندات التي تجيز إجراء عملية التعقيم3.
تعقيم النساء قسرًا لم يكن وليد هذا العصر، بل يعد انعكاسا لتاريخ طويل من الطب الامبريالي الذي عانت من تبعاته شعوب الدول المستعمرة.
فمثلًا عام 2018 تم إزالة تمثال الطبيب الأمريكي “جيمس ماريون سيمز” والملقب بأبو أمراض النساء الحديثة من السنترال بارك فقد عرف عنه استغلال النساء من أصول افريقية لإجراء عملياته الجراحية عليهن دون تخدير خلال القرن التاسع عشر وهو ما يعد متسقا لتصور المستعمر في خلال هذه الحقبة لكن يبدو ان هذا التصور مستمر حتى يومنا هذا فالإنجازات الطبية تتحقق من موارد وعلى أجساد شعوب الدول الأكثر فقرا لتوفير العلاج الأمثل للسكان الدول الأكثر ثراء4.
فالطب الامبريالي بحسب ما يرى المؤرخ ديفيد ارنولد أنه وسيلة ايدولوجية لنشر الرؤية الاستعمارية فقد ورد في كتابه، الطب الامبريالي والمجتمعات المحلية، أن طب المناطق الحارة أنشئ لحماية الجنود الاوروبيين في المقابل تم حرمان السكان المحليين من العلاج في أغلب الأحيان5. من الممكن أن يتعجب البعض من هذا الطرح فهل يمكن ان يكون للطب وجه اخر غير انساني لكن الواقع يكشف لنا الوجه القبيح من الطب. فقد تعددت أسباب توفير الرعاية الصحية في المستعمرات والهدف واحد دائما خدمة المستعمر. فيتم استخدام الطب لخدمة المستعمر سواء من خلال استخدام الطب لتقليل عدد السكان عن طريق حرمانهم من الرعاية الصحية او التعقيم الاجباري كما هو الحال عادة في الاستعمار الاستيطاني في كندا وفلسطين او لخدمة المستعمر بشكل مباشر وذلك من خلال توفير الرعاية الصحية للجنود او في أحسن الظروف يتم توفيرها للسكان الأصليين لتوفير عمالة رخيصة للعمل في المناجم والمصانع والمزارع لزيادة أرباح المستعمر. هذه السياسات ليست مجرد فصل من تاريخ مظلم، بل هي متبعة حتى يومنا هذا.
الابرتهايد الطبي في فلسطين.
عادة ما يستخدم المحتل الطب للضغط على سكان المستعمرات الأصليين فبسبب العدوان الصهيوني على المستمر على قطاع غزة وانعدام مصادر التغذية السليمة ومياه الشرب النظيفة تم تسجيل أول إصابة بفيروس شلل الأطفال في القطاع لطفل عمره 10 شهور وعلى الرغم من ذلك فإن الاحتلال الاسرائيلي يمنع دخول تطعيم شلل الأطفال ما يهدد حياة 602 ألف طفل بحسب وزارة الصحة بقطاع غزة6. لم تكن هذه المرة الأولى التي يمنع فيها الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من الحصول على التطعيم ففي اثناء انتشار وباء كورونا تم حرمان الفلسطينيين من الحصول على اللقاح فالأولوية دائما ما تكون للمحتل على حساب السكان الأصليين7.
هل أصبحنا فئران تجارب لشركات الدواء؟
حسب مؤلفة كتاب الفصل العنصري الطبي “هارييت آي واشنطن” فإن اختبارات فعالية علاج او تطعيم ما عادة ما تجرى على شعوب الدول النامية بحجة انتشار الامراض في تلك الدول لكن هذا غير صحيح فلا يتم توفير العلاج لهؤلاء المرضى الكثر في الدول النامية مما لا يدع مجالا للشك ان الهدف الحقيقي وراء ذلك هو تحقيق ربح عال بأقل التكاليف8. فتزامنا مع غزو العراق وجدت الحكومة الأمريكية نفسها أمام مأزق بسبب إصابة الالاف من الجنود الأمريكيين بمرض ليشمانيا فقررت الحكومة الأمريكية القضاء على المرض وبأقل تكلفة ولأن القانون الأمريكي يمنع إجراء التجارب على الجنود. تم اختيار تونس لإجراء التجارب العلاجية فهي دولة ينتشر فيها مرض ليشمانيا. أجريت التجارب على أطفال منطقة أولاد محمد بسيدي بوزيد مقابل50 دينار بمخالفة صارخة للقانون الذي يمنع إجراء التجارب على القصر كما يمنع اجراء التجارب على البشر بمقابل مادي. لم يتطوع هؤلاء الأطفال لإجراء التجربة، بل أخضعوا لها بعد أن استغل المنفذون فقرهم ولمم يوضحوا لهم النتائج المترتبة على التجربة. لم يحصل الأطفال التونسيين على العلاج بعد إجراء التجارب عليهم على الرغم من التوصل إليه فعلى أي حال كان الهدف منذ البداية علاج الجنود الأمريكيين ولم يكن أطفالنا سوى وسيلة لتحقيق هذا الهدف.9 وليست مصر عن هذا الواقع المؤلم ببعيدة فطبقا للتحقيق الاستقصائي التي أجرته DW بعنوان “تحت التجربة” تحتل مصر المركز الأول عربيا والثاني أفريقيا من حيث إجراء التجارب الطبية على البشر وقد تضاعفت هذه النسبة في السنوات الأخيرة فبمعدل انتشار فقر سريع يطال حوالي ثلث الشعب المصري كما أن معظمه لا يحظى بتأمين صحي تسببت هذه الظروف في تكوين البيئة المثالية لشركات الدواء العالمية لإجراء تجاربها على البشر10.
لم تتغير النظرة الاستعمارية حتى في اثناء انتشار وباء عالمي طال الجميع ولم يكن حكرا على شعوب الدول الفقيرة التي “ينتشر فيها الأمراض” فأثناء تفشي جائحة كورونا ناقش أطباء فرنسيون حول تجربة لقاح كورونا على شعوب الدول الافريقية هذا الطرح يذكرنا بتجارب التي أجريت في افريقيا لمحاولة التوصل الى علاج للإيدز وتجرى هذه التجارب عادة بتمويل حكومات غربية على الرغم من كون هذا غير أخلاقي وغير قانوني في هذه الدول11.
المرض واحد لكن هل الاهتمام بتوفير الرعاية الصحية كذلك؟
في الوقت الذي عانى فيه الشعب المصري والسكان الأصليين في جنوب افريقيا من تفشي البلهارسيا اثناء الاحتلال البريطاني لكلا الدولتين لم تستجب السلطات البريطانية بطريقة موحدة لمكافحة الوباء فقد حرصت السلطات البريطانية على استغلال موارد مصر الاقتصادية ولم تعر اهتماما بصحة المصريين في المقابل أولت اهتماما بتوفير الرعاية الصحية لمكافحة البلهارسيا في جنوب افريقيا لكن هذه الرعاية كانت حكرا على السكان البيض المستعمرين، بينما عانى السكان الأصليون من قلة الخدمات الصحية. على الرغم من اختلاف طرق تعامل السلطات البريطانية مع وباء البلهارسيا في كلا المستعمرتين الا ان النتيجة كانت واحدة وهي حرمان السكان الأصليين من الرعاية الصحية اللازمة12. 13
تم استخدام الطب لأغراض توسعية استعمارية لتحقيق الربح على حساب الهدف الإنساني للطب فالمستعمر يفرض طرقه في العلاج على الدول الأكثر فقرا ثم يبيعها الأدوية التي يحتكر صناعتها من خلال شركات كبرى لا تسمح بصعود شركات ناشئة محلية فيصعب على سكان الدول النامية شراء العلاج مما يجعلهم يقبلون بحلول خطرة لمحاولة تلقي العلاج حتى وإن كان ذلك عن طريق القبول بتجربة علاج لم تثبت كفاءته بعد كمحاولة للتعلق بأمل قد يكون زائفا. كيف يمكن لدول أن تدعي الإنسانية والعدالة وفي الوقت ذاته تستخدم الطب كورقة للضغط ولتحقيق أعلى معدل ربح على حساب حق الشعوب الفقيرة في العلاج.
المصادر:
.
1 كندا: التعقيم قسرا2024/7/6˝ – DW – ! 2 كندا: التعقيم قسرا2024/7/6˝ – DW – !
3 الفقيرات محرومات من الإنجاب.. حياة مدمرة لضحايا العقم القسري | أخبار مرأة | الجزيرة نت
Why a J. Marion Sims Statue in NY’s Central Park Was Removed | TIME 4
6 صحة غزة: منع إسرائيل دخول تطعيم شلل الأطفال يهدد 602 ألف طفل | أخبار صحة | الجزيرة نت
7 الأمم المتحدة تعيب على إسرائيل حرمانها الفلسطينيين من تطعيم كورونا – الحريات العامة وحقوق الإنسان
The Ethics Of Coronavirus Vaccine Trials In Developing Countries : NPR 8
9 وثائقي “هل يصنع القتلة الدواء؟” (111)هل يصنع القتلة الدواء؟ – تونسYouTube – 10 فئران بشرية” :تحت التجربة – “تحقيق استقصائي2018/4/11 – DW –
ssrn_id4756553_code3897943.pdf 11
12 الاستعمار أصاب بلادنا بالوباء وحرمنا العلاج لخدمته.. بشاعة “الطب الإمبريالي”
imperial medicine and indigenous societies 13