كتابة: اشراق بوسعيدي
استعمار اللغة في زمن ما بعد الكولونيالية
في لحظة يُفترض أنها “ما بعد كولونيالية”، لا تزال اللغة تُمارس استعمارها على النساء، خصوصًا نساء الجنوب العالمي. في التقارير الحقوقية والحملات الدولية، بل حتى في بعض الخطابات النسوية الغربية، نجد كيف تُختزل هؤلاء النساء في أوصاف تُعيد إنتاج الهيمنة: “ضحايا”، “جاهلات”، “خاضعات”، “غير قادرات على اتخاذ القرار”. هذه ليست مجرد أوصاف، بل بنية خطابية تغلف واقعًا تاريخيًا من التهميش والسيطرة، حيث تتحوّل اللغة نفسها إلى امتداد سياسي للاستعمار.
نسوية الإنقاذ: خطاب الهيمنة المقنّع
ظهر هذا جليًا فيما عُرف بخطاب “نسوية الإنقاذ”، حين استُخدمت قضايا النساء لتبرير التدخلات العسكرية أو الاقتصادية. فمثلًا، خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان سنة 2001، رُوِّج على نطاق واسع لفكرة أن أحد أهداف الحرب هو “تحرير النساء الأفغانيات من طالبان”. لكن ما حدث بعد ذلك أثبت أن حقوق النساء لم تكن أولوية حقيقية، إذ أظهر تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2012 أن معدلات الزواج القسري، والعنف المنزلي، ومحدودية التعليم، ظلت مرتفعة بل ازدادت في بعض المناطق بعد الاحتلال، وسط انعدام الأمن والانهيار الاجتماعي.
الأمر ذاته تكرّر في العراق، حيث أُضعفت البنية الاجتماعية والاقتصادية، وتراجعت مشاركة النساء في الحياة العامة بعد الغزو، رغم كل الخطابات التي وُظِّفت لتصوير التدخل العسكري كتحرير. لقد تحولت قضايا النساء إلى واجهة تستخدمها القوى المهيمنة لتحقيق مصالحها، بينما تم تغييب أصوات النساء الفاعلات داخل تلك المجتمعات.
حين تُختزل الأجساد في تقارير: الصحة الإنجابية كأداة استعمارية
في السياق الصحي، تُستخدم قضايا الصحة الإنجابية والجنسانية كمدخلات “تقنية” لما يُسمى تنمية دول الجنوب. لكن عند التمحيص، نجد أن كثيرًا من البرامج الدولية تأتي بمفاهيم جاهزة لا تُراعي السياقات الاجتماعية والثقافية المحلية. ففي كينيا، كشف تحقيق أجراه “المركز الإفريقي لأخلاقيات الطب الحيوي” عام 2020 أن مئات النساء في المناطق الريفية تلقين لقاحات لمنع الحمل من دون موافقة مستنيرة، في إطار حملات للحد من “الانفجار السكاني”. كثير من هؤلاء النساء لم يكنّ على علم بتأثيرات تلك الأدوية، ولا بخيارات بديلة، مما يشير إلى منطق فوقي يُعامِل أجسادهن كمجال للتدخل لا للشراكة.
في قلب هذا المشهد، تتكشّف حقائق لا تقل استعمارًا عن الماضي. على سبيل المثال، في عام 2022، خُصص أكثر من 3.1 مليار دولار لمشاريع ما يُسمى “تنظيم الأسرة” في إفريقيا جنوب الصحراء، بحسب تقرير FP2030، غير أن كثيرًا من هذه البرامج لم تُصمَّم بالشراكة مع المجتمعات المحلية، بل فُرضت كحلول جاهزة مستوردة من مراكز القرار الدولي. وفي كينيا، تم استخدمت لقاحات منع الحمل كما ورد أعلاه.
وفي السودان، سُجلت حالات مشابهة ضمن برامج القضاء على ختان الإناث، حيث تدخلت منظمات دولية في مجتمعات محلية بخطاب قسري ولغة إدانة، مما أثار ردود فعل سلبية حتى من نساء مناهضات للختان، لأن الخطاب كان يُقصيهن ويصوّرن كضحايا عاجزات، لا كشريكات في مقاومة ثقافية معقّدة.
هذه الأمثلة لا يمكن قراءتها خارج إرث الاستعمار، فهي تُعيد إلى الأذهان لحظات كان فيها الجسد الأنثوي في الجنوب موقعًا للتجريب الطبي أو أداة ديمغرافية تُعاد هندستها باسم “التنمية” أو “التنظيم”. هذا ليس مجرد تدخّل طبي، بل هو استعادة لنمط سيطرة يمتد من الحقبة الكولونيالية، حيث كانت النساء والفقراء يُستخدمون كـ”حقول اختبار” لسياسات وممارسات مهيمنة.
المرأة الأخرى: التمثيل الكولونيالي في الخطاب النسوي الغربي
تشير الباحثة شاندرا موهانتي إلى أن كثيراً من الأدبيات النسوية الغربية ما تزال تسقط في فخ تمثيل المرأة من الجنوب العالمي بوصفها “المرأة الأخرى”.. الجامدة، الخاضعة، غير العقلانية، الغارقة في التقاليد، وغير القادرة على الوعي بذاتها أو الدفاع عنها. في مقابل هذا التمثيل، تُبنى صورة المرأة الغربية: فاعلة، واعية، مستقلة، ومُتحرّرة. لا يُفهم هذا التقابل فقط بوصفه ناتجًا عن جهل أو تعميم ثقافي، بل كامتداد لاستعمار معرفي يُعيد إنتاج علاقات القوة التي طالما عرّفت المركز والهامش، المُخلِّص والضحية، المتكلم والصامت. في هذا التمثيل، لا تُمنح المرأة من الجنوب صوتها الخاص، بل يُتحدث نيابة عنها، ولأجلها، بصياغات جاهزة تتجاهل واقعها المركّب وتختزل تجربتها ضمن خطاب الهيمنة. تُحوَّل إلى “مشروع إنقاذ” دائم، لا إلى ذات تمتلك agency (قدرة على الفعل)، ولا إلى شريكة في إنتاج المعرفة. إنها لا تُرى كفرد قادر على التأويل أو المقاومة، بل كرمز لأزمة يجب حلّها، أو كحالة يجب معالجتها.
إن هذا التمثيل لا يخلو من عنف، حتى عند التعبير عنه بلغة الحقوق. لأنه يُعيد إنتاج الآخر على هيئة “نقص”، ويستدعي استعماره باسم التحرير. إنه يعيد صياغة الاستعمار لا في شكل احتلال عسكري أو اقتصادي، بل في شكل احتلال رمزي ومعرفي، تُكتب فيه النساء بلغة لا تخصّهن، ويُعاد تأطير أجسادهن وتجاربهن من خلال مفردات المركز لا من داخل نسيج الحياة اليومية. وهنا، يتحوّل الخطاب النسوي الغربي حين لا يراجع تمركزه الذاتي إلى سلطة تمارس ما تدّعي نقده: فهي تُملي، لا تُنصت. تُمثّل، لا تُشارك. تُصدّر تعريفًا جاهزًا للاضطهاد والتحرر، دون أن تتوقّف لتسأل: من يعرّف؟ ولمن يُكتب هذا التحرر؟ وبلغة من؟
إن تفكيك هذا التمثيل ليس رفضًا للتضامن، بل دعوة إلى إعادة بنائه على أسس أفقية تُنصت إلى النساء في موقعهن، بلغتهن، وضمن أولوياتهن. فالمعرفة التي لا تنبع من التجربة، بل تُفرَض عليها من الخارج، تظل دائمًا امتدادًا للعنف، مهما كانت نواياها
اللغة: حين تتحول الأداة إلى استعمار خفي
المشكلة ليست فقط في أن التدخلات تُمارس بلغة استعمارية، بل أن اللغة ذاتها تصبح أداة استيطان ناعم، تنسج حدود ما يُعتبر مقبولًا، عقلانيًا، إنسانيًا. في كثير من الخطابات الدولية، توصف ممارسات نساء الجنوب بأنها “مؤذية”، “متخلّفة”، أو “ضد حقوق الإنسان”، من دون النظر إلى السياقات التي نشأت فيها هذه الممارسات، أو كيف تفهمها النساء المعنيات أنفسهن. وكما قالت الناشطة النسوية الكينية بيلي ترايانا: “لسنا ضد إنهاء الممارسات الضارة، بل ضد الطريقة التي يتم بها إسكاتنا ونحن نواجهها”.
كذلك ظهر في تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2021، وصف لزواج القاصرات في عدة دول إفريقية وآسيوية بأنه “ممارسة بربرية”، وكأن مجتمعات بأكملها لا تملك سوى العنف والجهل. لم يُذكر أن كثيرًا من هذه الزيجات تُفرض بدافع اقتصادي ناتج عن استعمارٍ أنهك البنى المجتمعية لعقود، أو عن انهيار تعليم رسمي لا يوفّر أي بديل للفتاة.
في هذه اللغة، تُختزل الظاهرة في “الحدث”، وتُستأصل من جذورها البنيوية. الخطير ليس فقط في التسمية، بل في مصادرة قدرة النساء على إعادة توصيف تجاربهن. تُمحى لغاتهن، تُحرَّف مفرداتهن، وتُجبر أجسادهن على التحدث بلغة لا تشبههن.
حين تُستعاد اللغة، يُستعاد المعنى
في الواقع، عدم وجود مفردات دقيقة ليس دليلًا على غياب الفكرة، بل على قوة المنع، ومركزية الهيمنة المعرفية. إن أغلب المعاجم العربية التقليدية لم تضع في اعتبارها أصوات النساء، ولا احتياجات الأقليات الجندرية، ولا تاريخ الاستعمار الجنسي. لذلك، حين نستخدم كلمات مثل “تمكين”، “عنف مبني على النوع”، أو حتى “حرية جنسية”، كثيرًا ما نستعيرها من قوالب دولية دون ترجمة حسّاسة للسياق. والنتيجة: لغة هجينة، مفصولة عن الواقع، تُستخدم على النساء لا معهن.
إن هذا لا يعني الانغلاق على خطاب “الخصوصية الثقافية” الذي غالبًا ما يُستغل لحماية القمع. لكنه يعني أن أي حديث عن تحرير الجسد يجب أن يمر من الجسد نفسه، بلغته، بذخيرته الرمزية، وبألمه التاريخي. لا يمكن أن نتحدث عن حرية الجسد في سياق لم يشفَ من اغتصاب الاستعمار، ولا أن ننادي بالمساواة من داخل مفردات جاءت من مركز هيمن علينا قرونًا. إن التحرر الحقيقي يبدأ حين نخلق لغتنا، لا حين نكرر لغة لا ترى فينا إلا ظلالًا.
إن استعادة اللغة ليست فعلًا رمزيًا فحسب، بل شرطًا جوهريًا لتحرير المعنى، وتفكيك بنى الهيمنة. حين تُفرَض علينا مفاهيم جاهزة، بلغة لا تُشبه سياقاتنا، فإن التجربة تُختزل، والمعرفة تُشوَّه، والجسد يُخرَس.
على سبيل المثال، لا توجد في معظم اللغات العربية والإفريقية ترجمة دقيقة لكلمة consent، ولكن مفهوم الرضا حاضر ومعقَّد في ثقافاتنا: قد يُفهم ضمنيًا عبر الأعراف، أو يُمارس كتفاوض اجتماعي دقيق، لا يمكن اختزاله في منطق ثنائي بسيط من نوع “نعم/لا”. عندما تفرض اللغة الاستعمارية نموذجها المفاهيمي الجامد، فإنها لا تُفسّر هذه الممارسات بل تُدينها، وتُصنّفها على أنها دليل على الغياب: غياب للوعي، للحرية، للإنسانية. لكن الواقع أكثر تركيبًا، وأكثر استحقاقًا للفهم لا للمحو.
ينطبق الأمر ذاته على مصطلحات مثل “النوع الاجتماعي” أو “الجندر”، التي غالبًا ما تُفهم في السياق العربي كتهديد ديني أو سلوك مستورد “غربي”، لا لأنها كذلك بالضرورة، بل بسبب غياب تراكم لغوي ومعرفي محلّي يربط هذه المفاهيم بالعدالة، بالهوية، بالعلاقات اليومية، وبالقوة والصراع داخلها. فكلمة “الجنس” في اللغة العربية ما تزال محصورة في دلالاتها البيولوجية أو الجنسية، بينما تغيب عنها البنية المفاهيمية التي ترى الذكورة والأنوثة كأدوار تُصنع اجتماعيًا وثقافيًا، لا كحقائق طبيعية مُطلقة.
هذا ليس عجزًا في اللغة بقدر ما هو تجميد سياسي للخيال اللغوي. اللغة العربية، ككل لغة حيّة، قادرة على التوليد، على الاشتقاق، على أن تتّسع لتجارب وأصوات لم تكن يومًا في قلب معاجمها الكلاسيكية. لكن المأزق يكمن في من يُصرّ على ألا تتطوّر، في من يمنع الكلمات من أن تولد من رحم التجربة اليومية، ويُبقيها أسيرة قوالب لغوية عقيمة، تكرّس الهيمنة بدل أن تكسرها.
اللغة ليست وعاءً محايدًا للمعاني، بل موقعًا للصراع على السلطة والمعنى. والهيمنة لا تكتفي بإسكات الأجساد، بل تسعى إلى إسكات الكلمات التي يمكن أن تُحرّرها
نحو كتابة صورة أقرب للواقع مما نراه
المعرفة لا يجب أن تأتي من المركز إلى الأطراف، بل العكس. إن استعادة نساء الجنوب لأصواتهن لا تعني فقط الدفاع عن أنفسهن، بل عن حقهن في أن يكنّ هنّ من يروين القصة. نحن بحاجة إلى نسوية تعترف بجرح الاستعمار، لا لتغلقه أو تنكره، بل لتمنحه مكانًا في السردية.
نسوية تُنصت بدل أن تتكلم، وتشارك بدل أن تُملي، وتسائل بدل أن تُمجّد الخطابات الجاهزة. إن النسوية التي لا تفكك علاقة اللغة بالسلطة، والجسد بالمعرفة، ليست سوى امتدادٍ آخر لاستعمار يتخفّى خلف شعارات براقة، لكنه لا يزال يقول لنا، بطرق ناعمة: كيف نعيش، وكيف نحب، وكيف نُقاوم.