الاقتصاد من منظور نسوي: العدالة الاقتصادية كما نراها، لا كما تفرضها السياسات الممنهجة

الاقتصاد-من-منظور-نسوي (1)

كتابة: اشراق بوسعيدي

الاقتصاد, كلمة تتردد حولنا في كل مكان تقريبًا، نسمعها يوميًا؛ في نشرات الأخبار، في الأسواق، على شاشات التلفزيون، أو حتى في أحاديثنا اليومية. ولكن، رغم حضوره الدائم والواضح في كل جانب من جوانب حياتنا، كم منا يفهم حقًا ما يعنيه الاقتصاد؟
بالرغم من أن الكثيرين يدركون أن الاقتصاد قوة محورية تؤثر في تفاصيل حياتنا اليومية، وتشكل الأنظمة التي توجّه قراراتنا وتحدّد مستقبلنا؛ من أبسط اختياراتنا الشخصية إلى مصائر الأمم، فإن القليل منهم يعي المعنى الحقيقي للاقتصاد أو يدرك الأسس والمبادئ التي يقوم عليها، رغم أنه المحرّك الخفي الذي يصوغ واقعنا ويؤثر في كل ما يدور من حولنا.

فالاقتصاد ليس مجرد أرقام جامدة أو معاملات مالية، بل هو نسيج معقد يربط بين حياة الناس، ومصدر القوة الذي يبني الأمم أو يضعفها. إنه مرآة تعكس اختياراتنا وسلوكنا، ومحرك يصوغ ملامح المستقبل، من توازن القوى بين الدول إلى تفاصيل قرار بسيط في بيت كل واحد منا. ولذلك، ففهم الاقتصاد ليس حكرًا على النخب والخبراء فقط، بل ضرورة وأداة أساسية لكل امرأة تريد أن تكون صاحبة قرار، فاعلة لا متفرجة، وأن تفهم كيف تُدار الموارد والقوى من حولها، وأن تشارك بوعي في رسم مستقبلها ومجتمعها. فمن يفهم الاقتصاد، يفهم كيف يدارُ العالم…

ولكي نبدأ رحلتنا في الفهم، علينا أولًا أن نتوقف قليلًا عند الاقتصاد السائد كما نعرفه اليوم، ذلك الذي يحيط بنا في كل لحظة، يوجه سياسات الدول، ويحدد إيقاع حياتنا اليومية، دون أن نتساءل حقًا: كيف نشأ؟ وكيف وصل إلى شكله الحالي؟ سواء في صيغته الكلاسيكية أو النيوليبرالية.

بُني الاقتصاد إلى حد كبير على افتراضات ذكورية تتجاهل تجارب النساء وتهمّش مساهماتهنّ الاقتصادية، خصوصًا في مجالات العمل غير المدفوع والرعاية. النماذج الاقتصادية التقليدية غالبًا ما تُقيّم الإنتاج من منظور السوق الرسمي، متجاهلة بذلك ساعات العمل الطويلة التي تقوم بها النساء يوميًا في المنزل، سواء كانت تربية الأطفال، رعاية المسنين، أو إدارة شؤون الأسرة اليومية. هذه الأعمال، رغم أهميتها الجوهرية لاستمرارية المجتمعات واقتصاداتها، لا تُحسب ضمن الناتج المحلي الإجمالي ولا تُمنح الاعتراف أو المكافأة الاقتصادية نفسها التي يحصل عليها العمل المدفوع. على سبيل المثال، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن القيمة الاقتصادية للعمل غير المدفوع للنساء عالميًا قد تتجاوز 10 تريليونات دولار سنويًا، أي أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لكنها تبقى “مخفية” عن السياسات الاقتصادية الرسمية. هذا التهميش لا يقتصر على العمل المنزلي فقط، بل يشمل أيضًا الأدوار الحيوية في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والمجتمع المدني، حيث غالبًا ما تكون النساء القوة الدافعة وراء هذه القطاعات الحيوية، سواء في العمل المدفوع أو التطوعي. كما أن هذه الفجوة تؤدي إلى استدامة عدم المساواة الاقتصادية، إذ تُترك النساء لتحمل العبء الأكبر من الرعاية دون أي حماية اجتماعية أو دعم رسمي، بينما تُحتسب الإنجازات الاقتصادية للرجال بشكل مباشر في النمو الاقتصادي الوطني. هذا يجعل الاقتصاد السائد محدود الأفق، إذ يقيس النجاح الاقتصادي عبر الإنتاج السوقي فقط، متجاهلًا الركائز الاجتماعية والإنسانية التي تقوم عليها المجتمعات. أمام هذا التهميش الممنهج، برزت الحاجة إلى ظهور تيار فكري جديد يُسائل الأسس التي بُني عليها الاقتصاد ذاته، تيار يسعى إلى تحقيق العدالة في توزيع القيمة والاعتراف بالمساهمات غير المرئية.. وهكذا بدأت تتبلور الجذور الفكرية للاقتصاد النسوي.

الجذور الفكرية للاقتصاد النسوي:

نشأ الاقتصاد النسوي في سبعينيات القرن العشرين، ضمن سياق موجة النقد النسوي الثانية، كاستجابة للتجاهل المنهجي لتجارب النساء في التحليل الاقتصادي التقليدي. من أبرز رواد هذا المجال كانت مارلين وارينغ (Marilyn Waring)، التي كشفت في كتابها Counting for Nothing) 1988) عن إقصاء العمل المنزلي والرعائي من حسابات الناتج المحلي الإجمالي، مؤكدة أن الاقتصاد الكلاسيكي يقيس فقط الأنشطة الاقتصادية في السوق الرسمي، بينما يغفل الجهد الهائل الذي تبذله النساء لضمان استمرارية الحياة اليومية للمجتمعات. هذا الإغفال يجعل الناتج المحلي الإجمالي مؤشرًا غير مكتمل، لأنه لا يعكس القيمة الحقيقية لجميع أشكال العمل التي تدعم الاقتصاد.

امتد النقد النسوي ليطال الفرضيات الأساسية للنماذج الاقتصادية نفسها، خصوصًا مفهوم “العقلانية الاقتصادية”، الذي يفترض أن الفرد فاعل مستقل يسعى دائمًا لتعظيم منفعة شخصية. هنا تدخلت نانسي فولبر (Nancy Folbre) لتؤكد أن هذا الافتراض يتجاهل العلاقات الاجتماعية والرعاية الإنسانية، التي تشكل ركائز أساسية لأي اقتصاد مستدام. فوفقًا لفولبر، الاقتصاد الحقيقي لا يمكن أن يُفهم بمعزل عن الأسرة والمجتمع والأنظمة التي تدعم حياة البشر، إذ إن الرعاية والعمل غير المدفوع هما الأساس الذي يقوم عليه الإنتاج الاقتصادي الرسمي وغير الرسمي على حد سواء. فبين ما هو “رسمي” وما هو “مخفي”، تكشف فولبر عن الفجوة التي غيّبت جوهر الاقتصاد الإنساني. وبهذا المنظور الشامل الذي طرحته، لم يعد الاقتصاد مجرد معادلات إنتاج واستهلاك، بل شبكة حياة مترابطة لا تكتمل إلا بالاعتراف بالرعاية والعمل غير المدفوع. ومن هذا الوعي الجديد، بدأ يتبلور الاقتصاد النسوي كبديل بنّاء يعيد تعريف معنى القيمة والتنمية.

الاقتصاد النسوي كبديل بنّاء:

لم يقتصر الاقتصاد النسوي على النقد فحسب، بل قدّم رؤية شاملة تؤكد على أهمية إدماج التجارب النسائية والعمل غير المدفوع والرعاية الإنسانية في كل تحليلات وسياسات الاقتصاد، مؤسسًا بذلك لإطار جديد يفكر في العدالة الاقتصادية بطريقة أكثر شمولية وإنسانية. يعكس الاقتصاد النسوي رؤية مختلفة للأولويات الاقتصادية، إذ يشدد على إدراك القيمة الاقتصادية للعمل غير المدفوع، كما يسلط الضوء على فجوات عدم المساواة، حيث تشكل النساء غالبية القوى العاملة في القطاعات غير الرسمية وذات الأجور المنخفضة، مع استمرار فجوة الأجور العالمية بين الجنسين عند حوالي 21.8% لصالح الرجال. كما يوفر بدائل عملية لبناء اقتصاد أكثر عدلاً، أبرزها إعادة تعريف مفهوم “العمل” ليشمل العمل المنزلي والرعائي، واعتباره جزءًا من الناتج الوطني، أو من خلال سياسات دعم الرعاية. كما يروج لفكرة اقتصاد الرعاية (Care Economy)، الذي يقوم على الاستثمار في بنى تحتية للرعاية مثل دور الحضانة والمراكز الصحية والتعليم المبكر، إضافة إلى توفير إجازات والديَّة مدفوعة الأجر للرجال والنساء على حد سواء. الهدف هو تحويل الرعاية من مسؤولية فردية تقع غالبًا على النساء، إلى حق اجتماعي للجميع، بما يعزز تكافؤ الفرص ويخفف العبء غير المتكافئ على النساء.

ويرتبط الاقتصاد النسوي أيضًا بالعدالة التوزيعية والبيئية، إذ غالبًا ما تتأثر النساء في الجنوب العالمي بشكل مباشر بالتغير المناخي، سواء بسبب فقدان الأراضي الزراعية أو ارتفاع تكاليف المياه والغذاء؛ مما يجعل ربط السياسات الاقتصادية بالعدالة البيئية ضرورة حيوية. يقترح الاقتصاد النسوي سياسات متكاملة تراعي العدالة الجندرية والبيئية معًا، بحيث تصبح الموارد الاقتصادية والخدمات الأساسية متاحة بشكل عادل، ويُعترف بالعمل والرعاية كأساس للاستدامة الاقتصادية والاجتماعية. هذه الرؤية لم تبقَ حبيسة النظريات، بل وجدت طريقها إلى الواقع عبر تجارب دول ومجتمعات حاولت إعادة بناء اقتصادها على أسس أكثر عدلًا وإنصافًا. وهنا تبرز دروس من التجارب العالمية تستحق التأمل.

دروس من التجارب العالمية: نماذج ملموسة لتطبيق المبادئ النسوية في الاقتصاد

تقدم التجارب العالمية نماذج ملموسة لكيفية تطبيق المبادئ النسوية في الاقتصاد والسياسات العامة.

ففي أمريكا اللاتينية وتحديدا في الإكوادور، قادت الحركات النسوية نضالًا فكريًا ومجتمعيًا واسعًا للمطالبة بالاعتراف بـ الحق في الرعاية كحق دستوري أساسي. وقد تُوّجت هذه الجهود بتضمين هذا المبدأ في الدستور، مما أرسى إطارًا قانونيًا غير مسبوق للاعتراف بالعمل المنزلي والرعائي وإدماجه في السياسات الاجتماعية. شكّل ذلك تحولًا جوهريًا في النظرة إلى الرعاية باعتبارها عنصرًا من عناصر العدالة الاجتماعية، لا مجرد مسؤولية فردية.

 أما في أيسلندا، فقد أثبتت سياسات الإجازة الوالدية المتساوية بين الرجال والنساء أثرًا إيجابيًا على تقليص فجوة الأجور وتحفيز مشاركة النساء في سوق العمل. وفي الهند وجنوب إفريقيا، أظهرت الحركات النسوية المجتمعية أهمية إدماج الاقتصاد غير الرسمي ضمن السياسات الاقتصادية الكلية، بما يضمن الاعتراف بالعمل غير المدفوع وتمكين النساء اقتصاديًا.

وفي كلٍّ من الهند وجنوب إفريقيا، لعبت الحركات المجتمعية والنسوية القاعدية دورًا محوريًا في إعادة تعريف مفهوم العمل والإنتاج. فقد نجحت في الدفع نحو إدماج الاقتصاد غير الرسمي ضمن السياسات الاقتصادية الكلية، ما أتاح الاعتراف بالعمل غير المدفوع كجزء أساسي من النشاط الاقتصادي. هذه التجارب مثّلت خطوات عملية نحو تمكين النساء اقتصاديًا وضمان شمولية النمو الاقتصادي.

تُظهر هذه التجارب أن الاقتصاد النسوي ليس مجرد إطار نظري، بل رؤية قابلة للتطبيق قادرة على إعادة تشكيل السياسات العامة من جذورها. فهي تبرهن أن الاعتراف بالعمل الرعائي وغير المدفوع، وتوزيع المسؤوليات الاجتماعية بعدالة، يمكن أن يفتحا آفاقًا جديدة للتنمية الشاملة والمستدامة.

الاقتصاد النسوي في السياق العربي

في السياق العربي، تُصبح هذه الدروس أكثر إلحاحًا، إذ تواجه النساء تحديات متشابكة بين الأدوار الاجتماعية التقليدية ومتطلبات الاقتصاد الحديث. حيث تواجه النساء تحديات اقتصادية واجتماعية معقدة، تتجلى في انخفاض معدلات المشاركة في سوق العمل، ارتفاع معدلات البطالة، والأعباء الثقيلة للعمل غير المدفوع. حيث تشير البيانات إلى أن معدل مشاركة النساء في القوى العاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يبلغ 18% فقط، وهو من أدنى المعدلات عالميًا، مقارنة بـ 77% للرجال. في السعودية، على سبيل المثال، يبلغ معدل مشاركة النساء في القوى العاملة 34.4%، بينما يصل لدى الرجال إلى 80.7%. أما في تونس، فقد بلغ معدل مشاركة النساء في القوى العاملة 26%، بينما كان المعدل للرجال 77%. بالإضافة إلى ذلك، تعاني النساء من معدلات بطالة مرتفعة؛ ففي السعودية، تبلغ نسبة البطالة بين النساء 12.8%، مقارنة بـ 7.1% بين المواطنين السعوديين عمومًا.

تتجلى فجوة النوع الاجتماعي في العمل غير المدفوع بشكل واضح؛ ففي مصر، على سبيل المثال، تقضي النساء 24 ساعة أسبوعيًا في العمل غير المدفوع، بينما يقضي الرجال ساعات قليلة فقط. وتصل نسبة الوقت الذي تقضيه النساء مقارنة بالرجال في العمل غير المدفوع إلى 12:1 . هذه الإحصاءات تعكس عدم المساواة الهيكلية في توزيع المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية، وتوضح كيف يبقى العمل النسوي الأساسي في الرعاية والمنزل خارج نطاق الاعتراف الرسمي والاقتصادي. مع ذلك، تتيح هذه التحديات فرصًا لإعادة بناء نماذج اقتصادية بديلة تركز على تعزيز دور المرأة في التنمية، خصوصًا في مجالات الرعاية والاقتصاد الاجتماعي والتعاوني. لتحقيق ذلك، هناك حاجة ماسة إلى سياسات واضحة للعدالة الجندرية، تشمل حماية العاملات في القطاعات غير الرسمية، ودعم البنى التحتية للرعاية، وضمان توزيع الموارد الاقتصادية بشكل أكثر تكافؤًا. إن دمج التجارب العالمية مع خصوصيات الواقع العربي يمكن أن يخلق إطارًا عمليًا لاقتصاد أكثر عدلاً وشمولية، يعترف بالعمل النسوي بكل أشكاله ويعزز قدرة النساء على المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما أن معالجة هذه الفجوات وتحقيق العدالة الاقتصادية للنساء في العالم العربي يتطلب تبني سياسات تعترف بالقيمة الاقتصادية للعمل غير المدفوع، وتدمجه في الحسابات الرسمية. وتشمل هذه السياسات دعم البنى التحتية للرعاية، مثل دور الحضانة والمراكز الصحية، وتوفير إجازات والدية مدفوعة الأجر للرجال والنساء على حد سواء، لضمان توزيع المسؤوليات الأسرية بشكل عادل وتمكين النساء من المشاركة الفاعلة في سوق العمل. كما ينبغي العمل على تقليص فجوة الأجور بين الجنسين، وتوفير فرص عمل لائقة للنساء، خاصة في القطاعات غير الرسمية؛ إذ يتطلب هذا التغيير إرادة سياسية قوية وتعاونًا متكاملًا بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني. ومن خلال هذا الجهد المشترك، يمكن بناء مستقبل اقتصادي أكثر عدلاً وشمولية، يعكس المساواة بين الجنسين ويضمن تمكين المرأة في مختلف مجالات الحياة.

إلى جانب أهمية التوجه نحو هذه الإصلاحات الاقتصادية والسياسات العامة على أرض الواقع، إليك بعض الخطوات العملية التي يمكن لكل امرأة اتخاذها لتعزيز استقلاليتها الاقتصادية وتوسيع مشاركتها في التنمية.

خطوات عملية لتعزيز استقلاليتك المادية:

تقدير وتنظيم عملك غير المدفوع: خصِّصي وقتًا لتوثيق الأعمال اليومية في المنزل أو المجتمع، فهذا يساعد على فهم قيمتها الفعلية وإدراك أهميتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

تطوير مهاراتك الاقتصادية: استثمري في تعلم مهارات جديدة مثل إدارة المشاريع الصغيرة، التسويق الرقمي، أو أي مهارات تعزز فرصك في العمل الرسمي أو الاقتصادي الاجتماعي.

المشاركة في المبادرات الاجتماعية والتعاونية: الانضمام إلى تعاونيات نسوية أو مجموعات دعم مجتمعية يزيد من شبكة علاقاتك، ويتيح فرصًا عملية للتأثير والمساهمة في التنمية المحلية.

المطالبة بحقوقك: احرصي على فهم حقوقك القانونية والاجتماعية في مكان العمل والمجتمع، وكوني صوتًا فاعلًا في تعزيز المساواة والعدالة في محيطك المباشر.

بهذه الخطوات، يمكن لكل امرأة أن تبدأ في تمكين نفسها اقتصاديًا والمساهمة بفاعلية في بناء مجتمع أكثر عدلًا وشمولية. فحتى قبل تنفيذ الإصلاحات الكبرى على مستوى السياسات الوطنية، يمكن لهذه الجهود الفردية أن تشكّل خطوات صغيرة لكنها فعّالة نحو اقتصاد أكثر عدلاً وإنصافًا، يضع الرعاية والكرامة الإنسانية في صميم معادلة النمو.