“يحبّ المجتمع المرأة حين تكون في صراع مع نفسها”، هكذا صرّحت المخرجة والكاتبة “جريتا جيروج” خلال العرض الأول لفيلمها “باربي” عام 2023. وبهذه الجملة البسيطة تم تسليط الضوءعلى حقيقة التوقعات والمعايير المفروضة على أجساد النساء، والتي تتحوّل إلى عبء نفسي يومي يُثقل كاهلهن، ويُضعف علاقتهن بذواتهن.
المعايير المجتمعية.. سجن وقيود
إن هذه العبارة تختصر تجربة نسوية طويلة من التوتر في علاقة المرأة بجسدها، بين ما تختاره، وما يُفرض عليها باعتباره “أنثويًا” أو “جميلاً” أو “مرغوبًا”. هذا الصراع اليومي لا ينبع من الداخل، بل يُزرع تدريجيًا منذ الطفولة، عبر التوجيهات العائلية، والمقارنات، وكذلك صور النماذج المثالية المنتشرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فيتحوّل الجسد إلى مساحة مطالبة دائمة بالمثالية والكمال.
لم تكن معايير الجمال يومًا ثابتة، لكنها ظلت دومًا رهينة لنظرة المجتمع إلى جسد المرأة. ففي بعض المجتمعات الصحراوية بالمغرب على سبيل المثال، كانت السمنة تُعد مقياسًا للجمال والأنوثة، مما أدى إلى ظهور ممارسة تُعرف باسم “البلوح”، وهي إجبار الفتيات على تناول كميات هائلة من الطعام بشكل قسري لزيادة الوزن. وكانت تشرف على هذه العملية سيدة تُلقب بـ”البلاحة”، والتي كانت تستخدم أساليب عنيفة للضغط على الفتيات اللاتي يرفضن هذه الممارسة.
ومن المفارقات أن هذه الممارسة تتناقض تمامًا مع ما يُفرض اليوم على النساء في مجتمعات أخرى، حيث تُعدّ النحافة الشديدة معيارًا للجمال، وتُقدَّم الحميات الغذائية القاسية كضرورة “صحية” أو “أنثوية”. رغم اختلاف الاتجاهين، إلا أن النتيجة واحدة: التحكم في الجسد الأنثوي باسم الجمال، دون احترام لرغبة المرأة أو طبيعتها الجسدية.
الجسد كمساحة للوصاية
البلُوح ليس مجرد تقليد قديم اندثر، بل هو مرآة للعنف الناعم والمستمر الذي يُمارَس على أجساد النساء في مختلف الثقافات. سواء عبر التغذية القسرية أو أنظمة الرجيم القاسية، تبقى الرسالة ذاتها: هناك من يعتقد أنه أدرى بجسدك منك. وتُقدَّم هذه الوصاية أحيانًا في قالب عاطفي: “لأننا نريد لك الأفضل”، لكنها في حقيقتها محاولات مُقنّعة للسيطرة..
ومن المهم أن نُدرك أن هذه الوصاية ليست اجتماعية فقط، بل مؤسساتية أيضًا؛ تُمارس في بعض الأحيان بأسم الدين، والقانون، وحتى الطب. ففي كثير من السياقات، لا تمتلك النساء القرار الكامل فيما يخص أجسادهن: من قرار الحمل أو الإجهاض، إلى اختيار الملابس أو أسلوب الحياة. وهنا تتحوّل “الرعاية” إلى رقابة، وتُصبح “الحماية” شكلًا من أشكال السجن القسري على أجسادنا.
أجسادنا… ساحة حرب يومية
نتيجة هذه الضغوط، تخوض النساء صراعًا يوميًا مع المرآة، والميزان، وملابسهن، ومع صورتهن الذاتية. ونُقنع أنفسنا بأنّ الخلل بنا، لا في المعايير؛ بأننا “لسنا كافيات”، لا لأننا ناقصات، بل لأننا لا نتوافق مع التغييرات المستمرة للمعايير الأنثوية التي يفرضها المجتمع.
ويُصبح الجسد مشروعًا لا ينتهي من التعديل، وتُختزل قيمنا كنساء في مدى مواكبتنا لهذه المعايير المتغيرة، مما يؤدي، بسبب الضغط المستمر، إلى تهديد سلامتنا النفسية والجسدية، وكذلك قراراتنا الحياتية، وعلاقتنا مع شركائنا، وكذلك مع ذواتنا.
الجمال ليس وسيلة للقبول
في مواجهة هذا العنف الناعم، نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الجمال، وعدم قولبته في القياسات أو المقارنات أو القبول المجتمعي، بل التأكيد على أننا يجب أن نعيش في أجسادنا بطمأنينة لا بخوف؛ أن نتصالح مع ذواتنا، لا نحاربها.
لا ينبغي أن يكون الجمال عبئًا نسعى لتحقيقه، بل حالة وجود حرّة نمارسها بذواتنا ومن أجلنا. حين نختار أن نكون كما نحن، بعيدًا عن أعين التقييم والوصاية، نكون قد بدأنا أولى خطوات التحرر.
وهذا التحرر لا يخص الشكل فقط، بل يمتد إلى كل القرارات المتعلقة بالجسد: من اختيار الملابس، إلى القرارات الجنسية والإنجابية. و بالتالي حين تصبح النساء قادرات على الدفاع عن أجسادهن، والمطالبة بحقوقه في الرغبة، والمتعة، والخصوصية، والحدود. حينها فقط يتحول الجمال من مشروع إرضاء مجتمعي إلى فعل ذاتي خاص بهن.
كتابة: أية كمال