كتابة: فاطمة كناني.
حظيت بشرف مرافقة صديقة توافقني في بلد الجنسية، تختلف عني في الثقافة والمنشأ، واستمرت علاقتنا ما يقارب الثلاث سنوات ويزيد..
وخلال معرفتي بها كانت تبهرني أمورٌ فيها كشخص، لكن ما سلب لبي منذ أول لقاءٍ لنا كان استخدامها نون النسوة في حديثها اليومي، في جدّها وهزلها دون الحاجة إلى اللجوء للفصحى والتي لطالما اعتبِرت جامدة على الكثير. كانت من إحدى قبائل شرق السودان والتي تركت شبه الجزيرة العربية منذ قرون لتستقر في أنحاء البلاد، وكان ذلك عاملًا في استخدامها للنون على الدوام، بل وأحيانًا في غير موضعها، فقد تستخدمها لأمر المذكر أحيانًا أو لوصفه، لم اسألها يومًا -حرجًا من جهلي- عن أصل ذلك أو سببه، خشيت أن يُشعرها ذلك بمزيد من التغريب حيث أن جميع رفاقنا اتفقوا ضمنيًا على استخدام لهجة بيضاء على سبيل الراحة، بينما برزت هي كنتوءٍ لهم وحسنةٍ لي تزين جبين بلادي.
لذا لجأت إلى كبار عائلتي ومحركات البحث استقصي وأسأل وظل سؤالٌ ما يلاحقني؛ ما الذي حدث لنا على مر السنين وجعل من الغريب أن نستخدم ضميرًا متحركًا -نون النسوة- في موضعه الصحيح؟
إن تقسيم الأدوار بين الجنسين وتأثيره على التوقعات من كل منهما لا يخفى على أحد، بل وأكاد أحسبه سببًا رئيسيًا في إبطاء عملية دمج المرأة في المجتمع الكبير وتحت السماء مباشرةً، لكن للغة دورٌ لا يُستهان به كذلك؛ إذ أنها وبالتوازي والتبادل مع الثقافة السائدة تعطي لمحة عن نظرة المجتمع للمرأة في فترة محددة، وبالتالي توقعاته منها.
ففي اللغة الإنجليزية، لا مرادف حقيقي لكلمة عانس للذكر، بل يُدعى بالعازب مهما طال به الأمد دون زواج، وكأننا نقول أن الرجل لا يمكن أن يتأخر في “دخوله القفص” بتاتًا، ويعطي ذلك بالمقابل إحساسًا بالعجلة لنظيراته النساء، فهي مدركة أنها إن بلغت سنًا معينًا يختلف باختلاف الحقبة والمجتمع فإنها ستنقلب من عازبة لعانس، وتنقلب مع ذلك “قيمتها” ونظرة العالم لها.
لا نواجه معضلة كهذه لغويًا في لغتنا، لكنها تحضر للغاية حين نُكثر من استخدام الكلمة الآنف ذكرها للنساء متناسين حيادها اللغوي، فلا نذكرها عند تناولنا الحديث عن حالة الرجل الإجتماعية.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أننا غالبًا ما نُشير إلى “رجال الأعمال” كأن النشاط الاقتصادي حكرٌ على الذكور، حتى في حال وجود نساء ضمن السياق ذاته، فلا نقول “سيدات أعمال” أو “أشخاص أعمال” إلا نادرًا، وكأن الأصل ذكرٌ والاستثناء أنثى. ويتكرر الأمر مع عبارات مثل “صنّاع القرار” و”رجال الدولة”، وكأن المشاركة العامة والسياسية تُخاطب ضميرًا واحدًا.
بل وأن التحيز اللغوي قد يغلّف ويقدم باردًا في طبق ينتقي المجتمع ألفاظه بعناية، يبتعد فيها عن العبثية أو البراءة، ويحمل لأجل ذلك دلالة اجتماعية تحقّر تجارب النساء وتقزيم معاناتهن .
فمثلا كلمة “هستيريا” هي مثال دال على هذا النوع من التحيز، فقد وُلدت متأثرة بأصلها الإغريقي الذي يربطها بالرحم، وكأن النساء وحدهن القادرات على الانفجار العاطفي أو فقدان السيطرة، فتُستخدم الكلمة منذ عصورٍ مضت -ولا تزال- بلا كثير تمحيص، لتقليص أي انفعال أنثوي إلى خلل، بينما يُوصف انفعال الرجل بأنه “ثورة غضب” أو “رد فعل طبيعي تحت الضغط”.
أما النكد -وما أدراك ما النكد- يرتبط دومًا بالمرأة، حتى صار لقبًا غير رسمي يُلصق بها في المزاح والجد على حد سواء، أما الرجل، فإن عبّر عن ضيقه أو حزنه، قيل عنه “يمرّ بضغوط”، أو “مسؤولياته كثيرة”، ولا يُشار لنفس المشاعر على أنها صفة ملازمة لطبيعته. ولا أحد يتساءل: لمَ لا نسمع عن “نكد الرجال”؟
إن في تلك التعابير تحميلًا ضمنيًا للمرأة بصفات لا تُفهم على أنها مشكلات إنسانية عامة، بل سِمات مرتبطة بجنسها، وكأن الألم حين يصدر منها يصبح مبالغة، والضيق مبعثه طبعٌ متأصل لا ظرفٌ قاسٍ. بذلك، تتحول معاناتها من شأن يستحق التفهم والمعالجة إلى نكتة أو نقيصة، فتُحجب عن التجربة الأنثوية صفة العمومية، ويُستثنى جسدها وعقلها من دوائر الإنصاف، باسم اللغة أحيانًا وباسم “الطبيعة” أحيانًا أخرى.
راودني شعور بأن أحد حلول مسألة كهذه يكمن في الاحتفال بالاختلاف، وإتاحة مساحة أكبر للتنوع في سبل التعبير؛ لأن جزءًا كبيرًا من شعوري بانشراح الصدر وشعور صديقتي بالضيق هو تعامل العالم مع كل ما هو غريب؛ تارةً بالقمع مما يؤدي لجهل عام بالثقافة وتارةً بالهُزء فيبتعد كل من صاحب اللغة عنها.
وأدرك جيدًا كما أدرك جريان الوقت أن تطويع المركزية لتشمل ما حولها سيوسع آفاقًا ويفتح أبوابًا لتقبل تباين التعبيرات، مما يخلق محادثةً أشمل عن استجابة للغة لذلك واستجابتنا لها ويشكل معجمًا ثقافيًا واسع النطاق يستوعب الرجال والنساء على سطح اللغة.
لا زال سؤالي السابق يحوي نصفًا غير مجاب، وبينما استقصي عن ذلك سأستغل ما تبقى من يومي وحياتي لأخبر صاحبتي كم جميلة هي نون النسوة حين تنطقها.